طلال حمزة
طلال حمزة
-A +A
حوار: عبدالله عبيان

لا تتوقف الدهشة في تجربة الشاعر طلال حمزة عند نصوصه التي تلتقط أصوات البسطاء وهمومهم من أزقة الأحياء القديمة لتفتح لهم نافذة تزف الضوء وتفتح لهم آفاق الأمل والحب، بل إن دهشة مماثلة تقتحمك عندما تحاوره، إذ يجمع بين مفردة تنغمس في الهموم اليومية، وثقافة ثرية شاملة تأخذك إلى فضاءات السياسة والاقتصاد والفن والثقافة. طلال حمزة أو «شاعر جدة غير» -كما يعرفه البعض- قال في حوار مع «عكاظ»: إن الثمانينات هي الفترة الذهبية للقصيدة الشعبية بشقيها النبطي والتفعيلة، لافتا إلى أن الشعر في تلك المرحلة كان هو الأهم بالنسبة للشاعر وللإعلام. وأشار «شاعر البسطاء» إلى أنه دافع عن تلك الشريحة من المجتمع ولكنهم خذلوه، لافتا إلى أن الشعر في الآونة الأخيرة لم يعد الشعر الذي نعرفه ونتوق إليه، إذ إن مؤشر «الهياط» ارتفع للذروة وهبط مؤشر الصدق للقاع، فلم تعد هناك ضوابط أدبية ولا حتى أخلاقية، وأصبح الانفلات هو سيد الموقف، مشيرا إلى أن نزار قباني هو الشاعر الأهم في العصر الحديث. وانتقد طلال حمزة الكثير مما يطرح في وسائل التواصل الاجتماعي. وقال: «عندما تجول في الفضاء الإلكتروني ترى العجب، وتجد أناسا تعرض أجسادها وأطعمتها وأثاث منازلها بطرق مضحكة»، مبينا أن كثرة المتابعين للشخص في كثير من الأحيان لا تعني الجودة، فمحلات «أبو ريالين» أكثر محلات السوق ازدحاما.. وإلى نص الحوار:



• عندما يذكر اسم طلال حمزة تحضر صورة الشاعر المسكون بهموم المجتمع، ولكن شاعر الهم الإنساني غاب عن المجتمع في الآونة الأخيرة.. ما هي ظروف وأسباب هذا الغياب؟

••طلال حمزة كان وما زال مسكونا بالهم الإنساني، مشغولا بالوجع الشعبي البسيط، كان وما زال مضمدا للجراح مسكنا للأوجاع، ولكن الظرف الاقتصادي في السنوات العشر الماضية اختلف فلم يعد هناك من يحتاج إلى مثل هذه القصائد، إذ ظهرت مظاهر الترف والبطر وكفر النعمة لتحل مكان المشاهد المضادة لها، وكنت حزينا لهذا السبب، متسائلا: أهؤلاء هم البسطاء الذين قضيت عمري أدافع عن حقوقهم ومشاعرهم وأتحدث عن مشكلاتهم وإحباطاتهم، لقد أصبح المشهد مرعبا ومقلوبا بالنسبة لي. ومن جانب آخر، كانت الظروف السياسية التي مرت بها الأمة منذ عام 2011 إلى الآن مربكة وغير مفهومة، لذا آثرت الصمت على الكتابة، والبعد عن المشهد ورأيت أن محاولة قراءته من بعيد أفضل من المثول فيه؛ هذا تقريبا كل ما حدث.

• ماذا اختلف في الساحة الشعبية من وجهة نظرك، وكيف تنظر إلى وسائل التواصل الاجتماعي؟

•• حري بنا أن نقول: ماذا بقي من الساحة الشعبية؟، لا أبالغ إذا ما قلت لك: كل شيء اختلف، الشاعر والأدوات والمتلقي والطريقة كل شيء اختلف.. نعم لقد ارتفع مؤشر الهياط للذروة وهبط مؤشر الصدق للقاع، فلم تعد هناك ضوابط أدبية ولا حتى أخلاقية، وأصبح الانفلات هو سيد الموقف وهو دائما سيئ الموقف، فالبعض يوقع اللوم على وسائل التواصل الاجتماعي وهو ظلم، إذ إن هذه الوسائل ما كانت لتعمل وحدها، بل إن الاستخدام المشين لهذه الوسائل تحت مسميات كثيرة كالحرية الشخصية والرؤية الإعلامية وما شابه ذلك أدى إلى فساد الذائقة من خلال تصديره لنماذج لا علاقة لها بالشعر وكائنات لا شأن لها بالإبداع، ولك أن تتجول في الـ«سناب شات» وتويتر والإنستغرام لترى العجب، ستجد أناسا تعرض أجسادها وأطعمتها وأثاث منازلها بطرق مضحكة وستجد أن ملايين من البشر يتابعونها بهوس.. وهنا أتذكر عبارة لطالما غردت بها في تويتر تقول: «عزيزي المغرد.. لا تغتر كثيرا بكثرة المتابعين فمحلات «أبو ريالين» أكثر محلات السوق ازدحاما #طلال_حمزة».

• في الثمانينات، فرضت قصيدة التفعيلة نفسها على خارطة الشعر وفتح الشعراء باب الاجتهاد الإبداعي وظهرت بعض المحاولات المميزة في قصيدة النثر، ولكن هاتين التجربتين تراجعتا في السنوات العشر الأخيرة.. كيف ترى ذلك؟

•• الثمانينات هي الفترة الذهبية للقصيدة الشعبية بشقيها النبطي والتفعيلة، كان الشعر هو الأهم، إذ بدأت الطفرة من خلال صفحات شعبية في بعض الصحف اليومية، وكان متابعو الشعر يضبطون ساعاتهم على مواعيد صدور تلك الصفحات، لم يكن الضوء صاخبا على هذا النحو، بل كان الجميع يبحث عن الشعر، وفي مثل هذه الأجواء الصحية والنقية يزدهر الأدب وينمو الشعر بجميع أشكاله، وعندما انتهت تلك الفترة؛ دخلت بعض الأسماء للمتاجرة بالشعر والاستفادة من الضوء.

وبدأت مرحلة جديدة وأصبح للشعر مطبوعات خاصة «مجلات» وقنوات، كان ذلك في التسعينات، إذ بدأت الساحة تتشكل ببطء وتأخذ منحنى جديدا يختلف عن السابق، إلا أن الوضع ما زال جيدا ونزيها إلى حد بعيد، وكانت قصيدة التفعيلة في تلك الفترة ترسم ملامحها وتحجز مكانها وتقدم أسماء شعرائها بشيء من الثقة، وكان لوجود الأمير بدر بن عبدالمحسن اسما فاعلا ومهما من خلال تاريخه المليء بالقصائد المغناة وغير المغناة في تلك الفترة دور بارز، بل إنه كان أشبه بالضوء الذي يدل على مكان الشعر، وكنا نكتب ونحلم، نرسم ونعيد قراءة الأشياء من حولنا ببساطة وهدوء، ثم جاءت مرحلة جديدة مليئة بالضجيج، وبدأت الساحة تبتعد عن الشعر وعن الأرض أيضا، جاءت الفضائيات بكل ما فيها من فوضى وخلل، إذ إن الكوادر الإعلامية غير مؤهلة، فهم مجرد أنصاف مثقفين وأسماء لا علاقة لها بالشعر، كما أن البرامج أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها استهلاكية، فابتعد الشعر عن المشهد شيئا فشيئا، وتقدمت القصيدة النبطية بشكلها الفج، كما تقدمت قصائد المدح والشتم؛ مدح الذات وشتم الآخر، فانزوى الشعر وسيطر المال على المشهد في البرامج والمسابقات والأمسيات التي يديرها ويشرف عليها رجال وسيدات أعمال يجعلون الشعر في آخر اهتماماتهم.

• هناك من يرى حداثة القصيدة في القالب الشعري وهناك من يراها في الفكر والرؤية.. من أي زاوية تنظر لذلك باعتبارك شاعرا مجددا؟

••أنا مع الضوء الذي يخطف الأبصار، ومع الرائحة التي تملأ المكان، مع الإحساس الذي يوحد قلبين، أنا مع الكلمة التي تكفي لشخصين، ومع الدمعة التي يذرفها شخص ويشعر بها آخر في مكان بعيد، مع الضحكة التي يتقاسمها أناس لا يتحدثون لغة واحدة، أنا مع الشعر أيا كان شكله أو لونه، مع الشعر أيا كانت اللغة التي يكتب بها.

أصحاب القنوات دخلوا الساحة للمتاجرة في الشعر



• كيف تنظر إلى أوضاع العرب في ظل المعتركات والتحديات السياسية الجديدة، هل ما زلت تردد قصيدتك: «كانوا العرب.. نخوة وكرامة ومرجلة وفزعات.. وصاروا عرب سات»؟

•• العرب أمة متناثرة في الهواء؛ هواء الرغبات والنزوات، أمة لا تقرأ ولا تفكر كما يجب ولا تعرف ماذا تريد، بل إن كل مشروع ناجح في الوطن العربي بات مشروعا فرديا بالضرورة، فالعمل الجماعي فاشل والعقل الجمعي معطل، للأسف أفسد العرب حياتهم بأيديهم؛ فالمتتبع للتاريخ العربي في القرون الأخيرة يشعر بالحيرة وعدم الفهم، ويشعر أن العرب أمة يأكل بعضها بعضا ويلغي بعضها بعضا، بل إن قصيدة «كانوا العرب نخوة وكرامة ومرجلة وفزعات.. صاروا عرب سات» لم تعد كافية لتصوير المشهد، إذ أصبح المشهد أسوأ من ذلك بكثير.

• في قصائدك حنين جارف للطفولة وشوق للمدن الحالمة وكأنك تبحث عن خريطة مختلفة وأزمنة جديدة بدءا من قصيدتك «جدة غير» وصولا إلى «عزيزي الطفل لا تكبر».. هل هذا الحنين يعكس قلق طلال حمزة؟

•• في إحدى قصائدي أقول:

عندي حنين

بس المصيبة مختلف

وأعرف لمين

للأماكن روحها مع ذاكرتها

نعم ثمة أماكن تحتضنك فور وصولك كما يليق بأم تربت على كتفك وتهدئ من روعك تحاول جاهدة أن تعيدك لنفسك كلما ابتعدت عنها، لمثل هذه الأماكن يكون الحنين أبديا، وكما أن للأماكن فتنتها ودهشتها التي لا تنتهي، فللأزمنة أسرارها وصناديق بهجتها المغلقة، إذ يتوقف الزمن أحيانا عند لحظة ما، فتكون نقطة البدء وفاتحة التاريخ، ومنها تنبعث الحياة بكل بهجتها وتفاصيلها، نعم أنا عاشق الأماكن والأزمنة، مدمن اللحظات الخالدة والأوقات الفريدة.

• تبوك، مهدي بن سعيد، ونايف الجهني، ماذا تعني لك هذه الأسماء، وأين تقع في خارطتك الشعرية؟

••تبوك الأوله في العشق.. تبوك الأوله في الآه.. تبوك الشعر لا قلته وصفق لي الحضور: الله.

أما مهدي بن سعيد ونايف الجهني وآخرون، فهم أسماء تثير البهجة وتفتح نوافذ الحنين، هم قريبون وإن باعدت بيننا الأماكن، وبعيدا عن الشعر هم أصدقاء جميلون وشعراء رائعون ما زالت أماكنهم في القلب دافئة.

آفاق الشعر الشعبي ضيقة جداً وهجرة الشعراء مبررة



• قلت إن نزار قباني أكثر الشعراء الذين يستفزونك شعريا، رغم أن نزار كان هائما في بحر العشق بعيدا عن منهجك الشعري الذي يحاكي هموم البسطاء.. ما سر دهشتك النزارية؟

••نزار قباني ظاهرة أدبية كبرى قلما يجود بها زمان، نزار قدرة مذهلة على كتابة الشعر، ومن وجهة نظري هو الشاعر الأهم في العصر الحديث، كما أنه كاتب مهم وجملته النثرية لا تقل أهمية عن جملته الشعرية، إذ كتب في السياسة والحب وتصادم مع المجتمع المحافظ في زمانه ثم تصالح، كان الشاعر الجريء والمغامر الذكي وهذه أهم سمات الشاعر وأجمل مواصفاته، وكان نزار شاعرا مبتكرا، لعب بالنار دون أن يحترق، ولعب بالمفردات فأنتج الفرائد، وهو باختصار مستفز لكل من يقرأه ومثير لكل من يقترب منه.

• الظروف التي يعيشها الشرق الأوسط هذه الأيام تمنح الشاعر مساحات شاسعة ليشكلها برؤيته وفلسفته الخاصة.. لكن صوت الشعر خفت إلى حد التلاشي.. كيف ترى ذلك وهل يعيش الشعراء أزمة فكر أم أزمة شعر؟

••قلت في تغريدة سابقة على حسابي في تويتر: «أحيانا حتى صانع الحدث لا يعرف بالضبط ما الذي حدث؟»، فالظروف التي تمر بها المنطقة هذه الأيام جعلتها تعيش أزمة فهم، والجميع تقريبا يعيش هذه الحالة، وهي حالة فقدان للتوازن؛ فقدان للقدرة على اتخاذ قرار حتى في الأمور الخاصة والبسيطة؛ ناهيك عن الأمور العامة والمهمة، والشاعر الشعبي موهوب بالمجمل ولكنه بسيط فهو لا يملك أدوات تمكنه من سبر أغوار المشهد السياسي الضخم والمعقد، كما أنه لا يقرأ فهو ليس على قدر كافٍ من الاطلاع، كما أنه ملول لا يطيق المتابعة؛ فالشعر الشعبي في المنطقة شعر انطباعي يعتمد على النظرة الأولى، ولما كان المشهد شديد التعقيد، متداخل الألوان، بالغ الحساسية، وقف الشاعر مشدوها لا يعرف ماذا حدث وماذا يمكن أن يحدث، وللأمانة أقول: «وقف الجميع هذا الموقف وليس الشاعر فحسب».

• كثير من الشعراء هجروا الشعر الشعبي وذهبوا إلى فضاءات أخرى، إذ اتجه نايف الجهني إلى الشعر الفصيح، والرطيان إلى كتابة العمود الصحفي، وعواض العصيمي إلى الرواية، فضلا عن عافت الذي أصبح اهتمامه بالوسط الرياضي أكثر من الشعر.. ما هو تفسيرك لهذه الظاهرة؟

••آفاق الشعر الشعبي ضيقة جدا بالنسبة لشاعر مطلع ومنفتح على الفنون والثقافات الأخرى، فمن الطبيعي إذن أن يبحث الشاعر المثقف عن أجواء أكثر ملاءمة وآفاق أبعد، وهذا ليس هجرا كما زعم سؤالك، ولكنه الجمع بين أكثر من فن وهذا أمر طبيعي جدا؛ فطبيعة الفنان المبدع والمثقف الخلاق تحثه دائما على البحث والتنقيب، فهو دائم الركض والتحليق والتجريب، والأسماء التي ذكرتها في سؤالك رغم اختلاف منهجها ورؤيتها إلا أنها أهل لكل جمال وإبداع، لذا فأنا أرى أن ما يحدث طبيعي جدا.

• هل سنرى طلال حمزة روائيا أو كاتبا صحفيا في المستقبل؟

••كتبت في عدة صحف ومجلات سابقا، ولعل «عكاظ» كانت إحداها في فترة من الفترات رغم قصر الفترة؛ فأنا كنت وما زلت من عشاق المقال، أما الرواية فلا أعتقد ولا أحبذ ولا أتمنى، فالمستقبل باب مفتوح إلى الأبد يا صديقي.